كلمة معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية حول “الدبلوماسية – الحياد والتأثير”
نص كلمة معالي السيد بدر بن حمد بن حمود البوسعيدي وزير الخارجية أمام منظمة الرؤساء الشباب بالمتحف الوطني العماني الجمعة 31 يناير 2025:
يسعدني أن أرحب بكم جميعًا في مسقط، وفي المتحف الوطني لسلطنة عمان. كما أود أن أتوجه بالشكر إلى منظمة الرؤساء الشباب على تنظيم هذا الحدث، وأهنئكم بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسكم.
آمل أن تمنحكم هذه الجلسة فهمًا أعمق للدبلوماسية العمانية، وأن تلهمكم لمد جسور التواصل مع من حولكم بروح الاحترام المتبادل والتعاون المنفتح.
ففي نهاية المطاف، أنتم هنا لهدف مشترك: أن تكونوا قدوةً في القيادة، وأن تبنوا علاقات قائمة على الصداقة الحقيقية.
إن الدبلوماسية هي فن التوازن، وقد سعينا إلى إتقان هذا الفن في عمان عبر التاريخ.
فهذه الأرض كانت دائمًا ملتقى للصلات، وجسرًا يربط بين القارات والثقافات والأفكار.
وعلى مدى قرون، رحّبت سواحلنا بالمستكشفين والتجار والمفكرين القادمين من مختلف أرجاء العالم، وكان لتبادل الرؤى والأفكار دور جوهري في تشكيل هويتنا الوطنية، كما أثرى أسلوبنا في التعاطي مع العالم.
بالنسبة لنا، لا تقتصر الدبلوماسية على كونها أداةً للسياسة الخارجية، بل هي جزء لا يتجزأ من نسيج هويتنا.
لطالما استرشدت الدبلوماسية العمانية بمبادئ الانفتاح والحياد والاحترام المتبادل.
نؤمن بضرورة خلق مساحات للحوار، حيث تُحل النزاعات بروح براغماتية، وحيث تتوحد المصالح المشتركة رغم تباين الرؤى.
هذه الفلسفة متجذرة بعمق في تاريخنا.
وأود أن أضرب لكم مثالًا على ذلك.
آمل أن يتسنى لكم خلال زيارتكم الاطلاع على قاعة الأفلاج في المتحف.
ففي هذه القاعة، ستتعرفون على نظام الري العماني القديم، حيث تمر القنوات، المعروفة بالأفلاج، عبر القرى، حاملةً معها المياه للشرب والغسيل والطهي والزراعة.
لقد شكّل نظام الأفلاج العمود الفقري لاستمرارية المجتمعات الجبلية منذ آلاف السنين، وكان له تأثير جوهري في صياغة نهجنا في السياسة الخارجية.
في الدبلوماسية، ترفض عمان المنطق الثنائي القائم على المواجهة، وترفض المعادلات الصفرية، وترفض سياسة العزلة الطوعية.
فنحن نرى أن هذه الاستراتيجيات تقوم على عقليةٍ خاطئة، عقليةٍ تؤمن بالمنافسة بدلاً من الشراكة، وترتكز على إضعاف الآخرين لتحقيق مكاسب ذاتية.
لكن قبل آلاف السنين، تبنّى العمانيون نهجًا مغايرًا.
فبدلًا من الصراع، لجؤوا إلى الحوار والتشاور والتكافؤ والبراغماتية للوصول إلى توافقات بشأن تقاسم المياه، وبمعنى آخر، تعلموا كيف يكونون جيرانًا صالحين.
ومع مرور الزمن، طورت هذه المجتمعات لغةً للتواصل ما زالت تُستخدم حتى يومنا هذا، حيث كانوا يرسلون إشارات من أعلى المجرى المائي للإبلاغ عن احتياجاتهم، وكانوا يضعون أكوامًا من الحجارة على قمم التلال المجاورة، وحينما تتلاقى أشعة الشمس مع هذه العلامات، كان ذلك إيذانًا بتحويل المياه إلى قرية أخرى.
لقد فضّلوا تقاسم الموارد الشحيحة بدلًا من التنازع عليها، ما أدى إلى تعزيز التعاون، وتنويع الأنشطة الزراعية، وترسيخ الاستقرار الإقليمي. لقد كانت سياساتهم تقوم على الحوار والتشاور، والحياد، والاحترام.
إن هذا النهج الدبلوماسي يكتسب اليوم أهميةً متزايدة، في ظل التحديات التي تواجهنا، من تغيّر المناخ، إلى الفقر وعدم المساواة، ومن الهجرة القسرية إلى الاتجار بالبشر والأوبئة.
لدينا مسؤوليةٌ مشتركة لمواجهة هذه التحديات، ولكن الأهم من ذلك، أن لدينا مصلحةً مشتركة في إيجاد حلولٍ ناجعة لها.
لذلك، فإن تصاعد موجات العداء وخطاب الكراهية والتمييز والازدواجية في المعايير على الساحة الدولية ليس أمرًا مثيرًا للقلق فحسب، بل هو أيضًا عائقٌ أمام التقدم.
خذوا قضية تغير المناخ كمثال.
عندما تخشى الدول أن تحقق غيرها مكاسب اقتصادية على حسابها، فإنها تتردد في الالتزام بأهداف طموحة.
إن هذا النهج، القائم على الحد الأدنى من التوافق، يأتي على حساب الحلول الجريئة والفعالة.
فالخلافات القومية تُجبرنا على قبول أضعف الحلول، ما يعرّض مستقبلنا المشترك للخطر.
لدينا مصلحةٌ مشتركة في الحد من تغيّر المناخ، لذا علينا أن نعتمد نهجًا يشجع على التعاون، ويضع الاستدامة طويلة الأمد فوق المكاسب الاقتصادية قصيرة المدى.
كما أن السياسات القائمة على العداء تعرقل جهود حل النزاعات.
إذ يرفض كثيرون إجراء حوار مع خصومهم، ويعتبرونه مكافأة لا ينبغي منحها لمن يخالفونهم الرأي أو السلوك.
لكن رفض الحوار لا يؤدي إلا إلى تفاقم العداء وتعميق انعدام الثقة وإجهاض فرص الحلول. فبهذا النهج، يتم إقصاء المسار الوحيد الذي قد يؤدي إلى السلام والتفاهم.
لقد رأينا هذا يحدث في قضية فلسطين.
ففي حين أن العديد من الحكومات تتحدث عن حل الدولتين، إلا أن البعض منها لم يعترف بعد بدولة فلسطين.
كما أن إدانتهم لحركة حماس تعميهم عن بعض المطالب المشروعة التي تطرحها، وعلى رأسها حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
إن الفلسطينيين يطالبون بحقهم في الأمن، وحقهم في تقرير المصير، أي الحقوق والضمانات التي يكفلها القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ولا يمكن لأي خطة سلام أن تكون عادلة أو مستدامة إذا أنكرت على الفلسطينيين حقهم في اختيار قيادتهم.
لن تنعم المنطقة بسلامٍ دائم ما لم تتحقق العدالة للفلسطينيين.
ومن هذا المنطلق، إذا أردنا التوصل إلى حلولٍ دائمة، فلا بد أن نكون مستعدين للحوار مع من نختلف معهم، والأهم من ذلك، أن نصغي إليهم.
إن جوهر الدبلوماسية، كما تراه عمان، هو الثقة.
إذا أظهرنا لشركائنا أننا نثق بهم، وإذا امتلكنا الشجاعة لاتخاذ خطوات جريئة، فسوف يبادلوننا ذلك.
في قضية المناخ، هذا يعني تبني أهداف طموحة.
وفي عمان، يتجسد هذا في مشاريع الهيدروجين الأخضر، حيث نطمح إلى وضع معايير جديدة تلهم الدول الأخرى في مسيرتها نحو التحول في مجال الطاقة ومواجهة تغير المناخ.
أما في تسوية النزاعات، فذلك يتطلب تغليب روح الاحترام المتبادل عند صياغة السياسات. فمثلًا، الجهات التي تعرقل الملاحة في البحر الأحمر تقول إنها ستتوقف إذا توقف العنف ضد فلسطين. أليس من المنطقي أن يكون بناء الثقة، وليس التصعيد المميت، هو السبيل الأمثل لتأمين الممرات البحرية وتحقيق السلام؟
آمل أن تكون هذه الرؤية قد أوضحت لكم مبادئ الدبلوماسية العمانية القائمة على الحوار والتسامح والانخراط الاستراتيجي.
فأنا على قناعةٍ تامة بأن ما يجمعنا كبشر يفوق ما يفرقنا.
وأشجعكم جميعًا على السعي لتحقيق الأهداف المشتركة، وبناء الثقة بشجاعةٍ ووعي.
الثقة تبدأ بالضيافة.
وفي عمان، الضيافة ليست مجرد تصرفٍ كريم، بل هي أسلوب حياة. فهي تعكس إدراكنا العميق لقيمة التبادل الثقافي والإنساني.
السيدات والسادة،
انظروا من حولكم، فهنا يجتمع صناع التغيير، ورواد المستقبل، وأصحاب الرؤى العالمية.
إن القيم التي تمثلونها تتماشى مع رؤية عمان للنمو والشراكة.
واليوم، تقف عمان كمنصةٍ للتعاون والفرص، وندعوكم لرؤيتها ليس فقط كمضيف، بل كشريكٍ وصديق.
معًا، يمكننا بناء مستقبلٍ يرتكز على الشمولية والاحترام المتبادل والازدهار المشترك.
التحديات التي تواجهنا عظيمة، لكن قدرتنا الجماعية على تجاوزها أعظم.
أرجو أن يلهمكم هذا اللقاء بأفكارٍ جديدة، وأن يثمر عن شراكاتٍ مثمرة.
شكرًا لكم.
لمشاهدة أبرز ما جاء في الخطاب مع الترجمة العربية يرجى الضغط هنا.